الخطاب الهوياتي والدولة الوطنية الحديثة

هناك صراع نفوذ وهناك صراع وجود؛ فصراع النفوذ قد يحدث داخل أبناء الهوية الواحدة، أما صراع الوجود فهو ما يحدث أحيانا بين هويتين مختلفتين تتوهمان نفسيهما متنافيتين، ولعلي سأعود بشيء من التفصيل إلى ما يرمي إليه ذلك من خلال ما سيأتي من فقرات هذا الحديث.

 

قبل أن أفي بالوعد الذي قطعته على نفسي للقارئ آنفا، أريد أن أنبه إلى أننا إذا عدنا إلى الذاكرة لنستنطق التاريخ الإسلامي عن تمثلات الدولة العربية الإسلامية في عهودها المختلفة وفي البقاع المتنوعة والواسعة التي قامت عليها نجد أنها كانت تحتكم إلى هويات متعددة بعضها إيجابي وبناء، وبعضها الآخر ينحو إلى التشظي، ويفضي إلى التفكك والعدمية؛ ولعل كبرى هذه الهويات التي كانت تظلها جميعا هي الهوية الجامعة، وهي ما ندعوه بـ"الثقافوية الإسلامية"، ومن الملاحظ أن هذه الهوية الجامعة حينما كانت تحتكم إليها الدولة العربية الإسلامية وتعرض عن الهويات المثبطة الأخرى كانت تعمل على تحريك التاريخ بشكل حثيث وفاعل، تلي هذه الهوية الجامعة في الإيجابية تلك المتأسسة على الحيز الجغرافي الذي كانت تقوم عليه الدولة، ومن الواضح أن هذه الهوية الأخيرة كانت تدفع في القديم إلى كثير من التنافس الإيجابي بين الدول على الصعيد العلمي والثقافي نتذكر ذلك التنافس البناء الذي كان قائما بين الأندلس والمشرق الإسلامي، والذي تحولت الأندلس بموجبه إلى دولة ذات رقي حضاري وعلمي وثقافي عز نظيره في زمانها.

 

وإلى جانب هاتين الهويتين الإيجابية كانت هناك – كما أشرت – هويات أخرى سلبية تدعو إلى التشرذم والتفتت وتصدع الجدار، نشير في هذا الاتجاه – مثلا – إلى العرق والشعوبية وما إلى ذلك كالقبيلة والطائفة والقوم والأسرة؛ فهذه تحيزات كانت – دائما – تعبث في نسيج المجتمع وتسرع بالدول إلى الأفول..

 

وإذا رجع بنا القول إلى الدولة الوطنية الحديثة نجد الحال لا يختلف كثيرا؛ فهناك الخطاب الهوياتي البناء، وهناك الخطاب الهوياتي الهدام، وهناك الخطاب الهوياتي الثابت، وهناك الخطاب الهوياتي المتغير، وكل هذه الخطابات الهوياتية تدخل في نسيج الدولة الوطنية وتتفاعل مع مكوناتها المختلفة؛ إن سلبا وإن إيجابا.

 

من ذلك نخلص إلى القول إن ما أسميناه الخطاب الهوياتي البناء هو ذلك الذي يستمد سرديته إما من الخطاب القومي والحضاري الذي تنتمي إليه الدولة الوطنية، وإما من الدولة الوطنية نفسها، في الحالة الأولى تعتبر الدولة الوطنية نفسها نواة مرحلية تعمل من أجل أن تؤول ذات يوم إلى الحاضنة الكبرى وهي الأمة؛ تلك الحاضنة التي يتوجب أن تذوب فيها كل الأنوية الصغرى المكونة لها، ومن هذا المنطلق يجب أن تعمل الدولة الوطنية – وهي تسعى إلى الالتحام بحاضنتها الكبرى – على رفع القيم والمبادئ والشعارات المعززة لكينونتها الحضارية وبعدها الأممي.

 

وفي الحالة الثانية، حينما يركز الخطاب الهوياتي على الدولة الوطنية ذاتها ككيان عام وجامع يكون خطابا إيجابيا وبناء كسابقه، ومن ثم فهو ينبني على النواحي الإيجابية في الدولة الوطنية سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي؛ ليشكل إطارا مشرقا يمكن اعتباره هوية عامة يتشرف بها أبناء البلد، وتقدم لهم دعما ماديا ومعنويا، وفي هذا السياق تتنافس الدول الوطنية على إحراز المؤشرات الإيجابية في مجال العدالة والحريات والحكامة وتدني الفساد.. إلخ، وبذلك تكون هويتها محل فخر واعتزاز من طرف أصحابها، ومحل تقدير واحترام من طرف الآخرين.

 

ولا يخلو النسيج الداخلي للدولة الوطنية مما يمكن اعتباره خطابا هوياتيا داخليا؛ يتأسس هذا الخطاب أحيانا على العرق والقبيلة وهما شيئان ثابتان يتسمان بالديمومة؛ بيد أن الخطاب الهوياتي المتأسس عليهما لا يخدم وحدة الدولة الوطنية ولا تقدمها ولا استقرارها؛ بل هو معول هدم وداعية تشرذم وتفتيت إذا ما استرسل فيه الناس انتهى إلى الصراع والاحتراب الداخلي المدمر، ومن الأجدى لأبناء الدولة الوطنية الحديثة بدل هذا الخطاب الهوياتي الملغوم أن يحتكموا إلى خطابات أخرى موازية ينقصها الثبات والديمومة ولكن تمليها طبيعة العصر ومواضعات الدولة المدنية الحديثة؛ يتعلق الأمر بالأحزاب السياسية وهيئات المجتمع المدني؛ صحيح أن تشكيلات كهذه قد لا يجد المنضوون تحتها من العصبية والحماس ما يجدونه في حواضن اجتماعية عتيدة كالقبيلة مثلا، ولكنني أعتبر أن ذلك عنصر أمان تحتفظ به الانتماءات العصرية لنفسها؛ تلك الانتماءات التي تقوم لحمتها وسداها على الرؤى والأفكار والمشاريع في مقابل الانتماءات التقليدية الضيقة القائمة على عصبية اللحم والدم، والتي هي متجاوزة في هذا العصر مثلما تجاوزها الإسلام يوم أنزل الله في محكم كتابه: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير} (سورة الحجرات، الآية: 13).

 

نعود إلى الفرضية التي صدرنا بها هذا الحديث والتي وعدنا بتعميقها قليلا يتعلق الأمر بقولنا أعلاه: إن هناك صراع نفوذ وهناك صراع وجود؛ هذه الفرضية تحيلنا إلى المشهد التاريخي برمته ترى ما الذي يحرك التاريخ؟ ما الذي يصنع الأحداث؟ بالنسبة لي كرجل مسلم أتفيأ ظلال القرآن أقول بدون تردد إن الأمر يرجع إلى سنة التدافع بين البشر، ومستندي في ذلك هو الآية الكريمة التي تقول: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا} (سورة الحج، الآية: 38).

 

التدافع سنة كونية لا شبهة فيها، ولكن البشر في كثير من حالات التدافع يستحيلون إلى وحوش ينهش بعضها بعضا، لقد كان بإمكانهم أن يتدافعوا بشرف وبشهامة وباعتراف للآخر في الحق بالعيش في سلام، ولكنه الظلم الذي جبل عليه البشر، وقديما قال حكيم الشعراء أبو الطيب المتنبي:

 

والظلم من شيم النفوس فإن تجد *** ذا عفة فلعلة لا يظلم!

 

الكثير من الصراعات الشائكة اليوم في العالم هي صراعات وهمية يغذيها تغييب العقل والقيم الإنسانية السمحة وفي مقدمتها اعتراف الإنسان بحرمة أخيه الإنسان وبحقه في الحياة بكرامة..

 

بصراحة شيء من العقل شيء من الإنصاف شيء من يقظة الضمير في اعتقادي كفيل بإطفاء كثير من النيران المشتعلة حول العالم..

 

 

15 March 2024