الحكم السوي في فوائد مصالحة القاضي مع الصحفي

المحامي / محمد سيدي عبد الرحمن إبراهيم

لا يزال أغلب القضاة يتحرج من الصحافة وربما عد بعضهم التحفظ، من وسائل الإعلام، ضمن أخلاقيات المهنة تشبثا بسنة بدوية طبعت الفقهاء على الترفع على الشعـراء.. ولئن كان من حق المرء، في حياته الشخصية، أن يستنكف عمن شاء فإن الانخراط في الوظيفة العامة يقتضي الالتزام بالتصرف وفق مساطر محددة، يتعين تغليبها على الأمزجة والتوجهات الشخصية طيلة مدة الخدمة. وبناء على ذلك لم يعد التحفظ البدوي المذكور مقبولا كسلوك بالنسبة لقضاة يكتتبون من كل فئات المجتمع ويخضعون لنصوص تفرض احترام مبدأ علنية جلسات القضاء الذي يتطلب تغطية صحفية.. وفي إطار سلسلة مقالاتي الهادفة إلى المساهمة في الإصلاح القضائي التي ضمنت قديمها في كتابي "مباحث في سبيل العدل، معالجات لواقع التردي القضائي وضرورات الإصلاح" الصادر سنة 2010 وسعيا إلى نشر الثقافة القانونية، أبين في هذه المعالجة أن التحرز من وسائل الإعلام، علاوة على كونه سلوكا متجاوزا، منهج مخالف لأنه يجانف المبادئ الإجرائية التي تحكم عمل القضاء، من جهة ولأنه ينبئ، من جهة أخرى، عن الحرص على التستر على أمر يسوغ تصنيفه في باب ما يحيك في القلب ويكره صاحبه أن يطلع عليه الناس، إذ من شأنه أن يغطي الظلم "نسيب الظلام" ويستره وبعكسه فإن عمل القضاة على تفعيل علنية الجلسات من أسباب توفير العدل وهو ما يتطلب استدعاء الصحفيين وترغيبهم في متابعة الإجراءات والمرافعات الممهدة للأحكام في انتظار إلغاء موانع التصوير والنشر من المنظومة الإجرائية، الذي بينت مدى إسهامه في الإصلاح ودعوت إليه كما دعا إليه بعض القضاة، في كتابات سابقة. وأشخص في هذه المعالجة واقع الجفاء بين القاضي والصحفي في موريتانيا وما شاكلها (أولا) وللمقارنة أعرض تطور العلاقة بين قضاة فرنسا وصحفييها (ثانيا) قبل أن أذكر بعض المحاكمات التي اكتسبت زخما إعلاميا دوليا (ثالثا) وأختم بالتعريج على واقع سلطان الكاميرا (رابـعـا).

 

أولا/ العلاقة بين القاضي والصحفي في موريتانيا وما شاكلها

يقول الإعلامي اللبناني رمزي جورج النجار، في معرض الرد على سؤال صحفي: "لا تزال تسود علاقة الإعلام بالقضاء في عالمنا العربي حالة من الحذر المتبادل، بحيث ينظر الإعلام إلى القضاء على أنّه أداة رقابة وحظر، فيما ينظر القضاء إلى الإعلام على أنّه مُسبب لبعض التجاوزات وعائق أمام سرية المحاكمات وضرورة عدم تسريب بعض المعلومات، لما في ذلك من تأثير على حسن سير وعدالة المحاكمات، لكن علينا بالطبع أن نزيل هذه العوائق النفسية بحيث يتمكن الطرفان من أن يتكاملا بما في ذلك من فائدة عليهما وعلى المواطنين عامة. على القضاء أن يعي أهمية الإعلام وأهمية أن يتواصل مع شرائح المجتمع كافة، كما على الإعلام أن يعي ضرورة احترام خصوصية القضاء، لكن بدون غض النظر عن دوره في محاسبة أي تجاوزات قد تحصل".

 

وقد نشر الخبير الراحل رمزي النجار (الذي أودى به داء كوفيد 19 سنة 2020) كتابا يتناول علاقة الإعلام بالقضاء عنونه: الحركة والسكون / الإعلام والقضاء، أورد فيه أنه: "احترامًا للقاعدة الإعرابيّة التي لا تمنع لقاء الساكن بالمتحرّك، ولأنّ الإعلام حركة، والقضاء سكون: آن الأوان ليتفاعل القضاء مع الإعلام، والقانون مع التواصل، والمحاكم مع وسائل التكنولوجيا والاتصالات.". وعلاوة على ما أورده الخبير أعتقد أن المحامين، بحكم تكوينهم القضائي واستقلالهم المهني، مؤهلون للعب دور إعلامي فاعل في القضايا التي يتعذر على الصحفي العام الخوض فيها، كما أن بوسع الزملاء لعب دور مسهل في ردم الهوة بين القضاة والصحفيين الذين قد يتقاطع عملهم.

 

فإذا كان واجب القاضي هو التطبيق السليم للقانون في فض النزاعات المعروضة عليه فإن دور المحامي يتمثل في تسخير معارفه وجهوده لمساعدة موكليه بإرشادهم إلى الطرق القانونية الكفيلة بتحقيق مصالحهم والحفاظ على حقوقهم والدفاع عنها حينما تكون مهددة وهو بذلك يخدم الحق ويساعد القضاء. ولأن المشورة تقدم عادة في وسط خاص وفي أماكن مغلقة فإن حفظ سر الموكل يعد من أسباب الثقة في المحامي المستشار أما الدفاع والتمثيل القضائي، اللذين تتم ممارستهما من حيث المبدأ، في قاعات مفتوحة وخلال جلسات علنية، فيقاس مستوى نجاح الدفاع فيهما بمدى توصيل قضيته إلى القضاة وإلى الرأي العام ومن اللائق بالمحامين، قياما بواجبهم، أن يصدعوا بقضاياهم وأن يتجنبوا التكتم على الظلم الذي كثيرا ما كان فضحه سببا في الحد منه وحتى القضاء عليه.

 

وجدير بالملاحظة أن عمل القاضي والمحامي يلتقي مع العمل الصحفي في اعتماد الثلاثة على التحرير فكما تتطلب الأحكام التعليل منهجا للإقناع بمدى تأسيسها، تتبع الاستشارات والعرائض والمذكرات خطا تحريريا يضمن وصول الخطاب للمستهدفين. وإذا كان مصطلح "العريضة الفاتحة للدعوى" هو المتداول عندنا لتسمية المكتوب الذي يقدم القضية المدنية للمحكمة وتتعهد بناء عليه، يشيع استخدام تسمية "المقال الافتتاحي للدعوى" وتسمى الردود والمذكرات بالمقالات الجوابية في بلدان مماثلة وقريبة وسواء سمينا المحرر عريضة أو مقالا فإن المحامي الذي يصوغه لا يستغني عن مهارة التحرير التي يحتاجها الكاتب الصحفي مع أن لكل فـن قاموسه ومصطلحاته ولكل كاتب أسلوب يميزه.

 

وتتقاطع مرافعات المحامين وقضاة النيابة العامة (القضاء الواقف) مع المراسلات والتقارير الصحفية الشفهية في أنها تتميز عندما يكون منتجها متمكنا لغويا وقادرا على الارتجال ومن أسباب التألق فيها الصوت الجهوري الذي يرفع مستوى الرسالة الإعلامية سواء كان مصدرها قاضيا أو محاميا أو صحفيا.

 

إن المحكمة Tribunal منبر يرتقيه قاض أو قضاة يتداعى إليه الخصوم ويؤمه العموم ليشهد مجريات المرافعة وأحكام القضاة فلا تذكر لأحد المحكمة إلا وتداعت إلى ذهنه قاعة بها قضاة ومرافعات تعرض للوقائع وتذهب مذاهب في تفسير النصوص لتشكل مخاض الحقيقة التي تنكشف بالحكم، وإذا جرت محاكمة ما وراء أبواب موصدة فإنه ينتاب الجميع شعور بأنها ستكون إجهاضا للحقيقة ولن تتوفر فيها الضمانات التي تعطي الحياة عادة لحكم صحيح. وينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته العاشرة على حق كل شخص في أن تسمع دعواه علنا من طرف محكمة مستقلة ومحايدة وللقاعدة قيمة القواعد الدستورية في موريتانيا، كما تقرر القوانين الإجرائية الموريتانية وقوانين جل الدول المتمدنة علنية المرافعات كمبدأ ثابت. ومن منظور الشريعة الإسلامية يجب أن يجلس القاضي في مكان عمومي لائق يصله الجميع فإن عدم ففي المسجد ملتقى الأمة.

 

وبعكس القاعدة، وكما هو الحال في جل البلدان العربية تكرس الممارسة القضائية في موريتانيا ثقافة الإغلاق والتحفظ السلبي حيث يرفض الكثير من القضاة الأضواء ويحترز من حضور الصحافة ويحجم المحامون عن الاضطلاع بدورهم الإعلامي الذي يمكن أن يحقق خدمة مزدوجة تنفع موكليهم وتفيد المرفق القضائي.

 

وقد كان تحفظ القضاة وتحرزهم من الإعلام منهجا متبعا لدى القضاء في الدول المتمدنة إلا أن المساطر المعاصرة تجاوزته باعتماد مبدأ العلنية الذي يتطلب تفعيله الاستعانة بوسائل الإعلام، التي أصبحت تولي اهتماما كبيرا بالشأن القضائي، حيث يجد الصحفيون مادة تجذبهم لقصور العدل: فالنزاعات وحلولها تحكي قصصا متنوعة وذات شجون ويوجد في البلدان المتمدنة صحفيون مختصون في متابعة مجريات المحاكمات ونشر أخبارها واستقصاء مآلاتها وبينما تختص في متابعة مجريات التقاضي مئات المجلات والجرائد والمواقع الإلكترونية في الولايات المتحدة وبريطانيا وفي الفضاء الآنجلو - سكسوني عموما، توظف وسائل الإعلام المعاصرة، في بلدان المعمورة الأخرى، صحفيين مختصين في متابعة الشؤون القضائية. وفي ذلك الجو المفتوح تطورت وتوطدت العلاقة بين القاضي والصحفي.

 

وتتجه الدول السابقة في الأخذ بأسباب التنظيم المدني إلى إذابة الجليد المتراكم الذي يعكر صفو الود بين القاضي والصحفي وإلى تطبيع العلاقة بين السلطتين اللتين يفيد المجتمع من تكامل رسالتيهما. ولفهم صيرورة الانفتاح أبين مراحل التطبيع بين الإعلام والقضاء الفرنسي الذي اقتبست بلادنا منه الكثير من تشريعاتها ونظمها الإجرائية.

 

ثانيا / تطور العلاقة بين القاضي والصحفي في فرنسا

توجد في فرنسا شعبة صحفية مختصة في نقل الأخبار القضائية تقوم على مصالحها رابطة الصحافة القضائية Association de la Presse Judiciaire التي أنشئت منذ سنة 1887 وتضم الآن في عضويتها زهاء مائتي صحفي بعضهم مستقل ويعمل أغلبهم لحساب مختلف وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية ولتسهيل المهام يحمل الصحفيون القضائيون بطاقات خاصة تخولهم ولوج المحاكم من الأبواب المخصصة للقضاة والمحامين وكتاب الضبط.

 

أما التصوير والتسجيل في المحاكم الفرنسية وبث مجرياتها فقد مر بتطور يمكن اختزاله في أربعة مراحل:

1. كان تصوير مجريات المحاكمات وبثها مباحا في فرنسا حيث كان الصحفيون المصورون، في سعيهم لاقتناص أفضل اللقطات، يتخذون قاعات الجلسات استوديوهات ولأن الصور لم تكن تستغني عن الأضواء الكاشفة فقد أزعج ذلك القضاة ومن أمثلة الإحراج قيام أحد المصورين بتثبيت مصباح كهربائي قوي (projecteur)  في صدر قاعة محكمة بضاحية فرساي لالتقاط الصور الأخيرة للمتهم Henri Désiré Landru وهو يغالب الضحك (موطس) كعادته إبان محاكمته الشهيرة التي جرت في باريس سنة 1921 وأفضت إلى إعدامه بالمقصلة، في السنة الموالية، بعد إدانته باغتيال عشر نسوة لم يعترف بقتلهن ولم يعثر لأي منهن على أثر.. وفي غياب نص يضع حدا لصولة الصحفيين تحمل القضاة الفرنسيون التشويش عدة عقود كان وميض الأضواء الكاشفة (لفلاشات) خلالها يخطف أبصارهم مما دفع الرئيس Favard لمخاطبة المصورين بعبارات تناقلها الناس كمثال على ضبط النفس، الذي يليق بالقضاة: "قليلا من الحياء أيها السادة" Messieurs, un peu de pudeur)).

 

2. بعد عقود من الهرج، وسعيا للحفاظ على سكينة القضاء، سنت السلطات الفرنسية قانون 6 دجنبر 1954 الذي تم بموجبه إدخال تعديل على قانون 29 يوليو 1881 المتعلق بحرية الصحافة ونص التعديل على تحريم التصوير والتسجيل أثناء انعقاد جلسات المحاكم إلا بإذن استثنائي يصدر عن وزير العدل وتم تضمين التحريم وعقوبة مخالفته في المادة: 308 من قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي.

 

3. خلال ثمانينات القرن العشرين بدأ التشكيك في ملاءمة استمرار حظر التسجيل والتصوير في جلسات المحاكم لما يؤدي إليه من تبخر وتلاشي المرافعات الشفهية الملهمة والتي لا تخلو من معلومات، ولذلك خاطب وزير العدل الجمعية الوطنية الفرنسية قائلا: "لم يعد من المغتفر في زمن تطور الصورة والصوت أن لا تكون للعدالة ذاكرة حية..". ونجح الرجل في إقناع البرلمان بإدخال تعديل على قانون التراث يتم بموجبه تصوير المحاكمات ذات القيمة التاريخية، عرف بقانون بادينتير Badinter ( اسم الوزير الذي اقترح المشروع) وبناء على قانون 11 يوليو 1985، بدأ تسجيل ونشر المحاكمات التي تصنف بأنها تاريخية.

 

4. ولم يكتف الفرنسيون بتسجيل وبث مجريات ثلاث عشرة محاكمة، لتشكيل الأرشيف التاريخي لقضائهم، وإنما تصاعدت المطالبات برفع الحرج عن تسجيل وتصوير مجريات المرافعات القضائية عموما مما حدا بالسيد دومينيك بيربن Dominique Perben ( وزير العدل في حكومة رافارين – إبان حكم شيراك) لإصدار قرار بتشكيل لجنة لدراسة إشكالية التسجيل والنشر الإلكتروني لمجريات المحاكمات وختمت اللجنة المعروفة بتسمية ليندين LINDEN ( اسم القاضية التي كانت ترأسها) تقريرها بتاريخ 22 فبراير 2005 ونشرته وخلصت فيه إلى توصيات بإعادة النظر في حظر التسجيل والتصوير أثناء انعقاد جلسات المحاكم.

 

وتضمنت خطة العمل للمجلس الأعلى للقضاء الفرنسي لسنة 2007 ما نصه: "يتعين أن تنفتح المحاكم على وسائل الإعلام بأنماطها الحالية: إذ لا يسوغ أن نلاحظ نقصا كبيرا في انفتاح المؤسسة القضائية ونستمر في رفض التفكير في دخول الميكروفونات والكاميرات لقاعات المحاكم. لقد أضحت الصورة والصوت الناقل الأول للأخبار إلى الجمهور العريض. وإذا كانت العدالة تتطلع لأن تعرف بنفسها وأن يفهمها الناس، يتعين أن تلتفت إلى وسائل الإعلام المرئية والمسموعة وأن لا تكتفي بالصحافة المكتوبة المخولة وحدها دخول قاعات الحكم لنقل ما يحدث".

 

وفي ظل الحكومة الفرنسية الحالية عبر وزير العدل إريك ديبونه موريتي Eric Dupont-Moretti –  في نهاية سنة 2020 - عن سعيه لإلغاء العراقيل التشريعية التي تحول دون تسجيل ونشر النقاشات القضائية، وأعرب عن أمله في أن يتحقق ذلك قبل نهاية فترة حكم الرئيس إيمانويل ماكرونه وخاطب موريتي الفرنسيين قائلا: "أساند تصوير ونشر مجريات العدالة كي يراها الفرنسيون. علنية النقاشات ضمانة ديمقراطية".

 

وقد تميزت بعض المحاكمات بزخم إعلامي كبير تجاوز حدود بلدانها أجد من المناسب التعريج عليها في هذه المعالجة.

 

ثالثا / محاكمات اكتسبت زخما إعلاميا دوليا

عرفت بعض المحاكمات زخما إعلاميا دوليا وأسهم تطور وسائل الإعلام والتواصل الحديثة في نشرها فخلال النصف الأول من القرن العشرين اكتسح المذياع الأثير وأصبح، بالإضافة إلى الصحف والمجلات التي انتشرت قبله، وسيلة الإعلام المعتمدة لمتابعة الأخبار وخلال النصف الثاني من القرن المنصرم انتشر التلفزيون قبل أن تنفجر ثورة الإنترنت التي طبعت القرن الواحد والعشرين وما مهدت له من قنوات ومواقع يحتل الصدارة فيها مؤقتا اليوتيوب والفيسبوك واتويتر.

 

وقد كانت محاكمة النازيين سنة 1945 من أكبر المحاكمات زخما على المستوى الدولي حيث حرص الحلفاء المنتصرون في الحرب العالمية الثانية على جمع الكتاب الصحفيين والمذيعين في بلدة نورنبرغ بألمانيا لنقل وقائع محاكمة الريش الثالث إلى العالم.

 

وإبان حكم التلفزيون، تمت محاكمة الرئيس المالي الأسبق موسى اتراوري وتابع العالم صوره وهو يساءل أمام المحكمة الجنائية بباماكو وكان المنمون والمزارعون في الريف المالي، الذين لا يتوفرون على شاشات صغيرة، يحبسون أنفاسهم ويدنون آذانهم من المذياع لمتابعة مجريات محاكمة الرجل الذي حكمهم على مدى ثلاثة وعشرين عاما.. وأفضت المرافعات إلى صدور حكم بإعدامه مع ثلاثة من معاونيه، يوم 12 فبراير 1993، قبل أن يستفيد لاحقا من عفو رئاسي إلى حين وفاته في سبتمبر 2020.

 

وفي سنة 2005 تابع المهتمون بالصوت والصورة مجريات محاكمة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين وكأنهم بالمنطقة الخضراء ببغداد وسمعوا اعتراضات الرجل ورفاقه ولفتت الطريقة المهنية التي أدار بها القاضي رزكار محمد أمين، أثناء الجلسات الأولى من المحاكمة، الانتباه. كما تابع العرب سنة 2011، عبر الشاشات الصغيرة، محاكمة الرئيس المصري الراحل حسني مبارك وعندما قررت السلطات المصرية، خلال شهر دجنبر سنة 2020، اقتراح قانون يقضي بعقاب من يقوم بتصوير وإذاعة جلسات المحاكم، انتفض الصحفيون المصريون الذين عبر نقيبهم الأسبق يحي قلاش عن شجب المشروع قائلا: "كارثة تنال من روح العدل الذي تعتبر العلانية أحد دعائمه لأنها تكرس ثقة الناس في القضاء وتضرب حرية النشر والحق الأصيل للمواطن في المعرفة وتتعارض مع مواد الدستور المصري والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية" وخلص قلاش لمطالبة الأطراف المعنية بالتصدي، بالحوار، لما أسماه "الكارثة التي لم يستطع الاحتلال أن يفرضها على المصريين ولا على صحافتهم ولا على قضائهم".

 

وفي منتصف شهر يوليو سنة 2015 توافد إلى العاصمة السنغالية داكار، زهاء ألف صحفي من أرجاء العالم، لتغطية محاكمة الرئيس التشادي الأسبق حسين هبري الذي حوكم بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وتعذيب واغتصاب في حق بعض مواطنيه وتمت المحاكمة بعد أن اتفقت دولة السنغال ومنظمة الوحدة الإفريقية على إنشاء "الغرف الإفريقية فوق العادة" CAE تجنبا لحرج تسليم الكهل الإفريقي ومساءلته في الشمال خاصة باعتبار صعوبات تنقل وإقامة آلاف الشهود وعشرات الضحايا في أوروبا حيث تعهد القضاء ضد الرجل على أساس قاعدة الاختصاص الكوني في متابعة جرائم التعذيب.. ونقلت مجريات محاكمة هبري بالصوت والصورة إلى العالم بأسره وبفضل وسائط الإنترنت تمكن اتشاديون وغيرهم من متابعة تصريحات ذوي الضحايا وأراملهم وشهادات حية عن التهم الموجهة لرجل حكمهم على مدى ثماني سنوات (من 1982 وحتى 1990).. أما هبري فقد مارس حقه في التزام الصمت ورفض الحديث للمحكمة التي قاطعها المحامون الذين اختارهم مما دفعها، تبعا لقواعد الإجراءات الجنائية، لتعيين ثلاثة محامين من نقابة داكار لمؤازرته في مواجهة الأطراف المدنية التي كان يمثلها خمسة عشر (15) محاميا من مختلف الجنسيات.. ورغم المهمة الصعبة دافع المحامون الثلاثة عن متهم رفض التجاوب معهم.. وأسفرت المحكمة عن إدانة حسين بالسجن المؤبد، سنة 2016، وتأكد الحكم عليه في طور الاستئناف، السنة الموالية، قبل أن ينتقل إلى جوار ربه في أغشت سنة 2021 بمستشفى (ابرينسيبال) بالعاصمة السنغالية داكار.

 

رابعــا / سلطان الكاميرا

لقد تغيرت حياة الناس جذريا وأصبح في حكم المتعذر على الشخص أن يتوارى عن الأنظار في الوسط الحضري بعد أن فرضت الكاميرا نفسها كسلطة مراقبة، بدوام كامل، تتابع الناس في الطرقات وتترصدهم في الأماكن العامة وحتى الخاصة. فبعد أن أتاح التطور التكنولوجي للكاميرات التغلب على قصور النظر واستغنت أجيالها المتأخرة عن الأضواء الكاشفة أصبحت تشبع فضولها بالتحديق في كل مكان وشكل ارتباطها بالإنترنت تحديا للمستترين حيث بسطت سيادتها بعد أن دللها قرينها النافذ بأن أتاح لها التصدير المباشر للصور والأصوات إلى المتابعين عبر العالم بسهولة وتوطدت سلطات التواصل بعد أن اكتتب الثنائي الفضولي الهواتف المحمولة في صفقة آذنت بانضمام كل حامل هاتف خلوي إلى المجتمع الصحفي بحيث أصبح يدير ويتحكم في وسيلته الإعلامية الخاصة التي ينشر عبرها ما بدا له.. ولم يعد الصحفي الجديد مرغما على الدنو لتصوير المشاهد عن قرب وإنما يكفيه أن يوجه عدسة كاميرا هاتفه لجهة معينة لضبط ما يتحرك في مجال الرؤية والتقاط ما يتردد في المكان من أصوات.

 

وإذا كان استخدام كاميرات التصوير لا يزال محظورا إبان انعقاد جلسات الجنايات والجنح، طبقا للمادتين: 278 و362 من قانون الإجراءات الجنائية الموريتاني، فإن ذلك الواقع لن يلبث أن يكون في خبر كان وقد بدأت بوادر تجاوزه بتركيب الكاميرات في ممرات ودهاليز قصور العدل بالعاصمتين انواكشوط وانواذيبو ولكأني بها تحملق في مداخل قاعات الجلسات وتتحين فرصة الإذن لها بالدخول لتغطية مجريات المحاكمات.

 

وقد سبقتنا بعض البلدان في تسخير الوسائل السمعية البصرية لخدمة القضاء: ففي سنة 2016 أمرت وزارة العدل المغربية بتزويد محاكم المملكة، بما فيها قاعات الجلسات، بكاميرات في خطوة اعتبرت الوزارة أنها لدواع أمنية ورأى البعض أنها تسهم في محاربة الفساد وتسعى السلطات في المملكة العربية السعودية لأن يعتمد قضاؤها كليا على الوسائل التقنية الحديثة من تصوير وتسجيل وأن تتمكن هيئات الحكم من الاستغناء عن الأوراق والأقلام وفي ظل العزل الصحي الذي فرضه كوفيد 19 نظمت دولة الإمارات العربية المتحدة جلسات قضائية عن بعد تفاعل فيها الأطراف مع المحاكم باستخدام وسائط الاتصال الالكترونية...

 

وأعتقد أن تفعيل مبدأ العلنية بالانفتاح الإعلامي للمحاكم خطوة في سبيل إصلاح القضاء وأن العبء فيه لا يقع على الصحفيين وحدهم إذ يجب على القضاة أن يحرصوا على تفعيل العلنية المقـررة ضمن مبادئ المرافعات كما أن مسؤولية المحامين تتطلب توصيل قضايا موكليهم إلى الجمهور الذي يساعد في إرساء العدل خاصة بعد أن بدأ الناس يعزفون عن الحضور البدني ويكتفون بمطالعة ما تنشره وسائل التواصل الساحرة من معلومات. إن إصلاح القضاء الوطني يتطلب نظرا وتقعيدا وغربلة وفي انتظار ذلك يعتبر رفع الحظر عن استخدام أجهزة التصوير والتسجيل إبان الجلسات الجنائية والجنحية عن طريق مراجعة المادتين 278 و362 من قانون الإجراءات الجنائية خطوة في الاتجاه الصحيح، لأن القضاة والمحامين سيشعرون بأنهم تحت رقابة المجتمع، بعد أن يتاح للناس متابعة المرافعات وإعادة متابعتها أنى شاءوا. وأراهن على أن القضاة وأعوان القضاء سيجتهدون وسيحسنون صنعا: فنقل وقائع المرافعات يساهم في حسن سير العدالة كما أثبته الخبير Paul Mason منسق مركز الإعلام والعدالة في معهد Southampton  بالمملكة المتحدة الذي قام ببحوث أثبتت أن بث مجريات المحاكمة عبر الوسائل السمعية البصرية يسهم في حسن سير العدالة.. وفي غياب نص صريح في قانون المرافعات المدنية، يحظر التصوير والتسجيل، يمكن لرؤساء المحاكم المدنية، ممارسة لما يخولهم القانون من صلاحية إدارة الجلسات وحفظ نظامها، الترخيص في تصوير وتسجيل مجريات بعض المحاكمات، على النحو الذي رغب فيه القاضي عبد الله ولد شماد في تدوينة له تحت عنوان: "في نقل جلسات المحاكم عبر وسائل الإعلام" (نشرت على حسابه على الفيسبوك بتاريخ 23 فبراير 2018) واقترحه القاضي هارون ولد إديقبي، في الاقتراح السادس من "مائة اقتراح لإصلاح العدالة في موريتانيا" (مقاله المنشور عبر وسائل التواصل خلال شهر أغشت 2018). وفي هذا التوجه يسوغ للمحامين، بعد موافقة موكليهم، إصدار نشرات عن القضايا التي في عهدتهم.

 

ويتعين أن يدرك المهتمون أن التأثير الإيجابي على القضاء مطلوب لأنه هو علة إقرار مبدأ العلنية أصلا لما يحققه الحضور من شد لأزر القضاة ومساعدتهم على التغلب على ضغوط الوسطاء وسعاة الرشوة، الذين يتسللون لواذا لتوجيه الأحكام والقرارات القضائية لتتماشى مع الأهواء والمصالح الخاصة.

 

لقد أصبح من الملح أن تعمل السلطات على إصلاح القضاء الوطني وأن تسحب الاستقالة القضائية، التي قدمتها، منذ فترة الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، رحمه الله واستمرت مع خلفه السيد محمد ولد عبد العزيز، على النحو الذي أوردت في كتاب "مباحث في سبيل العدل" لأن غياب القضاء وجور قراراته يطرد المستثمرين ويؤدي لاستشراء الفساد ويعطل المصالح الحيوية للدولة ويحبط تنميتها. وكما ورد في تقارير دولية حديثة فإن التردي القضائي، الذي كتبت عنه شخصيا منذ عقود، يتفاقم في ظل حكم رئيس الجمهورية الحالي السيد محمد ولد الشيخ الغزواني.

وقبل مباشرة جهود الإصلاح التي تمس الأصل يمكن اتخاذ تدابير استعجالية منها الأخذ بالمعايير العصرية في تجهيز القاعات القضائية بكاميرات تصوير وتسجيل تحقق توثيقا لم يعد من المناسب ولا الضروري الاعتماد فيها على الضبط البشري وحده بعد أن أضحت الكاميرات في متناول الجميع.. وفي انتظار وضع وتنفيذ خطة إصلاح واثقة لن يضيرنا رفع الحظر عن التسجيل والتصوير الذي تتيحه الهواتف الخفيفة المنتشرة التي تعمل دون ضوضاء أو إزعاج. ولأن الكاميرا كثيرا ما قطعت الشك باليقين وساعدت القضاء فإنني أرى تعديلها وأطلب من السادة القضاة إفساح مكان لها في مجالس الحكم ولن يكون إلا عدلا.

 

انواذيبو ١٦ رمضان ١٤٤٣ - 17 ابريل 2022.

 

 

20 April 2022